1-تمهيد ظهرت الرواية في الآداب الغربية في القرن التاسع عشر، فعبرت في نشأتها، شكلا ومضمونا، عن نوع من الإفرازات الثقافية والأدبية الناجمة عن الثورة البورجوازية التي أحدثت تغييرا جذريا في البنية الاقتصادية والاجتماعية الأوربية، نجم عنه ظهور الطبقة الوسطى، ولم تعرف الرواية طريقها إلى المغرب إلا بعد الاستقلال ببضع سنوات. ويكاد النقاد المغاربة يجمعون على أن رواية "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون، تعتبر أول عمل روائي في الأدب المغربي المعاصر. وكما تفاعل هذا الجنس الأدبي في نشأته وتطوره مع الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأوربية، فإنه بالنسبة للمغرب- حاول أيضا أن يصور جوانب من الواقع الاجتماعي والسياسي غداة الاستقلال، ويعبر عما تكنه نفوس المغاربة من أحاسيس وآلام وتطلعات.
ولقد عدت بعض الأعمال الروائية تعبيرا عن واقع وتصورات الفئة البورجوازية، التي اكتسحت مواقع السلطة والامتيازات بعد الاستقلال، واحتلت "بحكم تفوقها المادي والاقتصادي المواقع الأمامية من الحركة الثقافية".في حين أن معظم الروايات المغربية اعتبرت "نتاجا لأديوليوجية الطبقة المتوسطة في بلادنا منذ أواخر الستينات، حيث أنها كتبت من طرف مجموعة تنتمي في معظمها إلى الطبقة الوسطى.
وقد أدى هذا الربط بين نشأة الواقع الروائي وطبقة اجتماعية معينة، هي الطبقة البورجوازية والوسطى منها على الأخص، بالنقاد إلى اعتبار هموم المثقف البورجوازي الصغير محور أغلب الأعمال الروائية، وتداولت أغلب النصوص النقدية التطبيقية هذا الحكم؛ حيث رأى النقاد بأن المرتكز الفكري لمعظم الكتابات الروائية هو الطبقية التي كونها المثقف البورجوازي الصغير عن ظروف واقعه المادي وممارسته الاجتماعية، في خضم عملية بحثه عن معنى وجوده وقضايا تطلعاته وأوضاعه وحياته1.
ثم إن النص الروائي في المغرب عرف خمسة أنواع: 1- الرواية الذاتية (السيرة الذاتية) مثل "الزاوية" للتهامي الوزاني، أو " في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون. 2- الرواية العاطفية، مثل "أمطار الرحمة" لعبد الرحمن المريني. 3- الرواية التاريخية " وزير غرناطة" لعبد الهادي بوطالب، و"المعركة الكبرى " لأحمد محمد شماعو... إلخ. 4- الرواية الفلسفية: "جيل الظمأ" و "إكسير الحياة" لمحمد عزيز الحبابي. 5- الرواية الاجتماعية والواقعية: وهذا النوع الأخير يضم أغلب الروايات المغربية.
إن الاستغراب الذي نشأ في المجتمع المغربي قبل مجيء الاستعمار ببضعة عقود، وترعرع زمن الحماية الفرنسية لم يصب مجال الأدب إلا بعد الاستقلال. وهكذا لم يكد ينصرم العقد الأول من الاستقلال، حتى دبت نزعة الاستغراب في الأدب المغربي الحديث، سواء في القصة أو الرواية أو الشعر أو الكتابة المسرحية، مما أدى إلى غربة الأديب وتعميق الهوة بينه وبين قارئه.
2- حول النقد الروائي
أكدت الدراسات والبحوث أن المغرب المستقل ورث عن الاستعمار مشاكل وأوضاعا اجتماعية واقتصادية عميقة كانت لها مضاعفات خطيرة على المجتمع عموما وعلى الطبقتين الفقيرة والوسطى بصفة خاصة.
ففي البداية عانى الفلاح المغربي الأهوال والشدائد، عندما جرده المستعمر الأجنبي من أرضه وحوله إلى أجير صغير، وبقي بعد الاستقلال يشكو حاله من جراء التهميش الذي عرفته القرى المغربية. أما المدينة فقد أصبحت مسرحا لاكتظاظ المهاجرين البدو الذين قصدوها بحثا عن العمل، ولم يكن إحساسهم بالاستغلال من قبل أرباب المعامل الناشئة بأقل من إحساسهم بنفس الاستغلال من قبل المعمرين بالأمس. ولعل الاضطرابات التي اتسمت بها الاختيارات السياسية والاقتصادية طيلة الستينات، خير دليل على تردي الوضعية الاجتماعية. كما عبرت حركات الاحتجاج العام التي اندلعت في عدة مدن مغربية خلال شهر مارس سنة 1965، وكذا الاضطرابات العمالية المتتالية، وإضرابات الجامعات والمعاهد الثانوية، عن الاستياء العميق إزاء الأوضاع المتردية.
"كان ظهور الحركات اليسارية ذات التوجه الماركسي في السبعينات منبثقا عن هذا الواقع، إذ أن الأجيال الشابة التي تنتمي إلى الفئات الوسطى والصغيرة، والتي درست بمختلف الجامعات، قد خضعت لمؤثرات فكرية متعددة لعل من أهمها النظرية الماركسية، حيث وجدت فيها معينا على فهم الواقع والمطالبة بتغييره، وعلى رفض الواقع العربي بعد هزيمة يونيو 1967 وانتقاد الأنظمة العربية، حيث أن الحركات اليسارية ذات التوجه الماركسي اعتبرت هذه الهزيمة دليلا قاطعا على فشل الأنظمة البورجوازية في التسيير والمواجهة، ورغم الأبعاد المفروض الذي خضعت له هذه الحركات في المغرب منذ السنوات الأولى من السبعينات، فإن الفكر الماركسي ظل يشكل خلفية رئيسية في المجال الأدبي إبداعا ونقدا بصفة خاصة. وذلك ما يساهم في توضيح بعض ملامح الحركة النقدية كسيادة الاتجاه الواقعي في مجال نقد الرواية والطابع السياسي الواضح الذي اكتسته بعض المواقف النقدية من بعض الروائيين، لقد صاحبت هذه المواقف المد اليساري الماركسي التوجه في بداية السبعينات، وأبرزت إحدى السمات التي طبعت المجال الثقافي بصفة عامة، وتمثلت في ارتباط الثقافي و السياسي2 "نشأ النقد الروائي في المغرب في إطار هذه الخلفية بكل شروطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولاشك أن مساره و مرتكزاته النظرية ومفاهيمه نابعة منها. ولذلك فإن سيادة المفهوم السوسيولوجي للرواية منذ أواخر الستينات وحتى بداية الثمانينات، كما سيتضح لاحقا والإلحاح على الواقعية وعلى المضمون الروائي الملتزم، ونبذ القضايا المتعلقة بالشكل الروائي، كل ذلك من شأنه أن يؤكد الارتباط الذي لا يمكن التغاضي عنه بين الواقع بكل مستوياته من جهة، وبين نقد الرواية من جهة ثانية"3.
وهكذا منذ مطلع السبعينات، اهتم النقد الأدبي الروائي بالرؤية الواقعية فقد كتب محمد برادة وإدريس الناقوري وغيرهما مقالات وكتبا في هذا الشأن، وتم توضيح مفهوم الواقعية كمنهج يقوم أساسا على رؤية معينة للأدب وعلاقته بالواقع.
"وليست الواقعية سوى واحدة من المقولات العلمية الشاملة والموضوعية التي تلخص موقفا وفكرة صائبة يؤكدان أن الأدب والاديولوجية عموما، هما في كل زمان ومكان نتائج واقع بشري وثمرة تجربة اجتماعية معيشة4.
فالأدب إذن جزء من الواقع وأحد لوازمه، وكل تحليل يفيد في معرفة الواقع لابد أن يساعد كذلك على فهم الأدب، على اعتبار أن الأدب جزء من حركة الإنسان في العالم، ووسيلة من وسائل تعبيره عن علاقته بالعالم وعن تصوره له".
ومن الناحية المنهجية، تبنى بعض النقاد المغاربة منهجا اجتماعيا جدليا "بصورته الكلاسيكية التي كانت سائدة في أوربا مع بداية هذا القرن"5. وعلى رأس هؤلاء النقاد، إدريس الناقوري، وذلك بالرغم من اعترافه في مقدمة كتابه "المصطلح المشترك" باستفادته من نظرية لوكاتش، وغولدمان في الرواية.
ونجد أن منهج هذا الأخير البنيوي التكويني أكثر حضورا في الدراسات النقدية الأولى، التي تناولت فن القصة والرواية، وقد استعان بهذا المنهج عبد الكبير الخطيبي في كتابه "الرواية المغربية" بجانب المنهج الموضوعي كما عرف "رولاند بارت" في بداية مسيرته النقدية.
وقد اختار المنهج الكولدماني أيضا سعيد علوش لتحليل نماذج من الرواية المغربية في كتابه "الرواية، الايديولوجيا في المغرب العربي". كما توسل به نجيب العوفي في كتابه "درجة الوعي في الكتابة" الذي يدرس فيه بعض الأنواع الأدبية بجانب الرواية والقصة.
وطبق هذا المنهج لحمداني حميد في أطروحته الجامعية "الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي". وقد "كانت البنيوية التكوينية بدقة مفاهيمها ووضوح أساسها النظري، مدخلا وأصلا من أصول الاهتمام بالباختينية6التي استغل بعض الباحثين المغاربة في مطلع الثمانينات نظريتها الشعرية في دراستهم وأبحاثهم الروائية، وأخص بالذكر الأستاذين محمد برادة وأحمد اليابوري.
وساهم إبراهيم الخطيب في التعريف بنظرية المنهج الشكلاني من خلال ترجماته لبعض نصوص الشكلانيين الروس، التي حاول تطبيق بعض مفاهيمها على بعض الروايات المغربية في السبعينيات. غير أن هذا النمط من الأبحاث لم يحظ باهتمام النقاد المغاربة نظرا لكون اهتمامها ينصب على الجانب الشكلي الفني للعمل الأدبي، وعلى النسق اللغوي الداخلي للنص الأدبي مع إهمال المرجعية الاجتماعية والتاريخية لهذا النص.
وهكذا "شكلت النظريات الغربية في مجال النقد الروائي، المصدر الأساسي إن لم نقل الحتمي الذي استقى منه النقاد العرب مفهوم الرواية. نظرا لحداثة هذا النوع من الأدب العربي وغياب تراث نقدي في مجال الرواية قد يمتح منه الناقد كما هو الشأن بالنسبة للشعر مثلا. لقد كان النقد العربي، هو الوسيط الذي حمل إلى النقاد المغاربة بعض مفاهيم النقد الغربي وعمل على تعميمها في الساحة الغربية، لأنه عربها وطبقها على أعمال عربية محلية. غير أن النقد الروائي بالمغرب يبرز بشكل واضح خلال المنتصف الثاني من السبعينيات أن النقاد المغاربة يتوفرون إلى جانب اطلاعهم على الكتابات النقدية الواردة من المشرق العربي على معرفة متفاوتة بالمصادر النقدية الغربية سواء في آثارها الأصلية أو التي ترجمت إلى العربية.
يفرض البحث عن المصادر النقدية المغربية التي اعتمدها النقاد المغربة في مفهوم الرواية، ملاحظة الارتباط النوعي بالثقافة الفرنسية لدى المثقف المغربي كناتج عن ظروف تاريخية محددة، مما يدفع إلى القول بأن اللغة الوسيطة بين الناقد المغربي والناقد الغربي، هي الفرنسية في أغلب الحالات، وأن تأثير النقد الأدبي في فرنسا ساهم ويساهم كعامل خارجي رئيسي في توجيه النقد المغربي وضبط مفاهيمه"7.
وإذا كانت المناهج النقدية المستوردة قد أفادت النقاد المغاربة الروائيين في فهم وتحليل وترشيد النص الروائي فإن استعمالها لم يخل من عثرات، كما كانت له سلبيات كثيرة. وسأقتصر هنا على مثال من تقديم الدكتور محمد الكتاني لكتاب "الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي"8(دراسة بنيوية تكوينية).
" وهكذا يرتبط الفهم الروائي عضويا بالوسط الاجتماعي، لأنه يعيش في قلبه ويتصل بكل شرائحه، ويصدر عن وعيه، ولكنه في نفس الوقت يخضع من حيث الشكل لقواعد (البنية) المتميزة فيه. ومن تطابق البنية الفنية والمكونات الموضوعية ينشأ مشروع المنهج المفسر لهذا الإبداع. وهو المنهج الذي يقترحه المؤلف في هذا البحث، غير أنه يتحمس له بالقدر الذي تتلاشى أمام عينيه كل سلبياته,، فتمضي به غلواء الحماس إلى حد أنه يعتبر الروائي المبدع مجرد واضع للصياغة الفنية المناسبة للوعي الجماعي الذي يعتمل في ضمير الجماعة التي ينتمي إليها، أو الطبقة التي يعبر عنها، فالنص الروائي مرتهن حتما بالبنية الفكرية للجماعة، وإن بدا أنه من صنع كاتبه، لأن كاتبه لا يستقل بوعيه ولا بفنه، ولا بشيء ذاتي – مهما يكن حظه من الوجود- عن تلك البنية الجماعية. وتلج به الغلواء في مضايق هذا المنهج، فيصبح ناقدا دوغمائيا يتعاطف مع كل عمل روائي يرفض التصالح مع الواقع، ويدين كل عمل روائي متفائل، لأن التفاؤل ليس سوى عاطفة لا مبرر لها من منظور جدلية الصراع الطبقي.
وقد كان موقفنا من هذا النظرية سواء في حد ذاتها أو من خلال تطبيقها في هذا البحث، أنها تؤول العمل الفني بدل أن تحلله، فهي تجافي روح المعرفة الموضوعية وأنها حين تطبيقها تتجاهل أمرين: أولهما: الحدود القائمة فعلا بين الذاتي والموضوعي، بين المبدع وبين مجتمعه، بين وعيه الذاتي ووعيه الموضوعي باعتبارهما متداخلين لا منفصلين، بحيث يجب أن نعتبر أن تخلي الروائي عن وعيه الذاتي في سبيل تبني وعي جماعي، مرحلة من التطور يصل إليها عبر التحامه بطبقة اجتماعية ما، وليس قدرا مقدورا له في جميع الأحوال.
فالمبدع ينتقل من وعي مغاير عبر تجربته الذاتية، والتحامه بقضايا مجتمعه أو طبقته، وقد يظل متوقعا في ذاته، وقد يمزج بين الموقفين. وهكذا يبدو أن ذاتية الروائي تتجاوز نفسها لتنماث في المجتمع، وهو شبيه بمركب كيميائي تتغير فيه العناصر الذاتية فتصبح شيئا آخر، ليست هي الذات وليست هي الموضوع، في حين يمضي المنهج المطبق إلى تأكيد صيرورة الذاتي موضوعيا، بشكل حتمي أو آلي، وحينئذ لا نعرف أين نضع إبداعات روائية كثيرة تشذ عن هذه القاعدة.
لقد أصاب الناقد الدكتور محمد الكتاني في قوله:" غير أنه يتحمس له – أي لمنهجه- بالقدر الذي تتلاشى أمام عينيه كل سلبياته... إلى حد أنه يعتبر الروائي المبدع مجرد واضع للصياغة الفنية المناصبة للوعي الجماعي... فالنص الروائي مرتهن حتما بالبنية الفكرية للجماعة... لأن كاتبه لا يستقل بوعيه، ولا فنه، ولا بشيء ذاتي عن تلك البنية الجماعية..." وهذا نقد موجه لحميد لحمداني وللمنهج في نفس الوقت. ولطالما وقع النقاد البنيويون في مثل هذا الخطأ الناتج عن المبالغة في الاستعمال الآلي لعناصر ومفاهيم البنيوية التكوينية. ولعل الطبيعة الذاتية للمنهج البنيوي تكون المصدر الأساسي لهذا "الانزلاق" المنهجي الذي يحصل للنقاد أثناء استعمالهم للمنهج المذكور. "وهكذا نرى أن استعمال كلمة بنية بحسن نية لا يخلو من مخاطرة، خصوصا حين نكون إزاء علم لا يملك بعد الأدوات النظرية التي تؤهله لإدراك ذلك الموضوع على المنشود. ويكون عندئذ استخدام كلمة بنية مجرد تعالم وادعاء. وأخطر ما يكون الأمر أن تستخدم هذه الكلمة حين يكون المرء بصدد وقائع مركبة ومعقدة، ولا يملك استيعابها والإحاطة بها، فيعمد إلى احتوائها في طلاسم لفظية غامضة مختلطة بالضرورة، لكي يخلص من كل ذلك إلى استنتاج مبدأ أولي قابل للطعن حتما، ألا وهو الزعم بأن لتلك الوقائع طابعا ونسقا تنظيميا، ولاشك أن المرء حين يقول عن أي واقعة أنها تمثل نظاما أو نسقا، فإنه يرفع عنها كل عرضية تاريخية، كما أنه يقضي في الوقت نفسه على كل مبادلة حرة8.
ومن ناحية أخرى فإن ربط الإبداع الروائي وتقييده بالبنية الفكرية للجماعة وإعطاء الأولوية للعالم الاجتماعي على حساب ذاتية الروائي، كل ذلك يعبر عن مدى هيمنة المذاهب والتيارات الاجتماعية والفلسفية في الغرب على أقلام النقاد المغاربة، وهذه المذاهب تعلي من شأن المجتمع والعوامل الخارجية الاجتماعية والاقتصادية وتحط من قيمة الفرد ومبادراته الذاتية. ومن هنا فإن تحكم النسق أو البنية9في الإبداع الأدبي والفكري من باب تحكم العامل الاقتصادي- على الطريقة الماركسية- في الإنتاج الاجتماعي والثقافي، وتحكم العامل الاجتماعي- على الطريقة الدوركايمية – في النشاط الحضاري برمته وهكذا... بل إن إميل دوركايم جعل للمجتمع عقلا خاصا ومستقلا أطلق عليه "اسم العقل الجمعي"10، هذا العقل يجعل من خواص الوقائع والعوامل الاجتماعية أنها إجبارية وإلزامية لكونها تصدر عن قوة تعلو على الأفراد وهي قوة العقل الجمعي. ويرى دوركايم في كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع11أن الفرد لا قيمة له، ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية وإنما القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية، وكلها عبث لا قيمة له،وهو في هذا يحاول إرساء قاعدة تتعارض مع الإرادة البشرية وترمي إلى القول بأن التحلل والانحلال أمر حتمي. إن دوركايم يعد واحدا من كبار الدعاة إلى إنكار شخصية الفرد...
والخلاصة أن النقد الروائي في المغرب دار ويدورفي فلك الاستغراب، وأن النقاد المغاربة ما فتئوا يقلدون أساتذتهم الغربيين ويطبقون مناهجهم، حتى ولو أدى ذلك إلى "إلحاق الضرر" بالإنتاج الأدبي. يقول الدكتور حسن حنفي:" ننزع أنفسنا من بيئتنا الثقافية إما إحساسا بالعار أمامها، أو خجلا منها، أو جهلا بها، أو تقليدا للغير، أو انبهارا به، أو رغبة في اللحاق بركابه.
- نزرع أنفسنا في بيئة ثقافية أخرى، ندخل في معاركها ونحن لسنا أطرافا فيها، وبالتالي نحول أنفسنا إلى وكلاء حضاريين للغرب.هذا مثالي وهذا واقعي، هذا عقلي وذاك حسي، هذا وجودي وذاك وضعي، هذا تحليلي وذاك بنيوي، هذا ماركسي وذلك برجماتي... الخ. - نعطي الثقافة الغربية نوعا من الإطلاق والتعميم ليس لها، وننشرها خارج حدودها، وبالتالي نحقق مآرب ثقافة المركز باعتبارها ثقافة مهيمنة وموجه للأطراف12.
الهوامش:
1- فاطمة الزهراء أزوريل "مفاهيم نقد الرواية بالمغرب"(مصادرها العربية والأجنبية( طبعة النجاح الجديدة 1989 ص9 2- فاطمة الزهراء أزوريل المرجع السابق ص 17-18 3- فاطمة الزهراء أزوريل المرجع السابق ص 23 4– إدريس الناقوري"المصطلح المشترك" والنشر المغربية، البيضاء، الطبعة الثالثة 1985 ص 8 5– الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي/ حميد حمداني- دار الثقافة – البيضاء. 6عبد الحميد عقار "ملاحظات بصدد قراءة الرواية المغربية" 7- فاطمة الزهراء أزوريل المرجع السابق ص60-61 8– هذا الكتاب في الأصل رسالة جامعية هيأها الناقد الروائي حميد لحمداني تحت إشراف د محمد الكتاني وطبعت سنة1985 بدار الثقافة (الدار البيضاء). 9- عمر محمد الطالب "مذاهب الدراسات الأدبية الحديثة" دار اليسر للنشر مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 1988 ص 266 -10 انظر حسن شحاته سعفان "تاريخ الفكر الاجتماعي والمدارس الاجتماعية" دار النهضة العربية مصر ط الرابعة 1966 ص 240 و ما بعدها وانظر أيضا1976 p 388 et suiteEd.Gallinand France (les étapes de la pensée sociologique) Raynons Aron) 11- انظر الفصل الول والثاني من كتاب " Les régles de la méthode sociologique/France 1973/Ed" 12- حسن حنفي "مقدمة في علم الاستغراب....." ص 77 الاستغراب في الرواية المغربية المعاصرة (1)
د. عبد الله الشارف كلية أصول الدين/ كلية الآداب تطوان
1-تمهيد ظهرت الرواية في الآداب الغربية في القرن التاسع عشر، فعبرت في نشأتها، شكلا ومضمونا، عن نوع من الإفرازات الثقافية والأدبية الناجمة عن الثورة البورجوازية التي أحدثت تغييرا جذريا في البنية الاقتصادية والاجتماعية الأوربية، نجم عنه ظهور الطبقة الوسطى، ولم تعرف الرواية طريقها إلى المغرب إلا بعد الاستقلال ببضع سنوات. ويكاد النقاد المغاربة يجمعون على أن رواية "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون، تعتبر أول عمل روائي في الأدب المغربي المعاصر. وكما تفاعل هذا الجنس الأدبي في نشأته وتطوره مع الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأوربية، فإنه بالنسبة للمغرب- حاول أيضا أن يصور جوانب من الواقع الاجتماعي والسياسي غداة الاستقلال، ويعبر عما تكنه نفوس المغاربة من أحاسيس وآلام وتطلعات.
ولقد عدت بعض الأعمال الروائية تعبيرا عن واقع وتصورات الفئة البورجوازية، التي اكتسحت مواقع السلطة والامتيازات بعد الاستقلال، واحتلت "بحكم تفوقها المادي والاقتصادي المواقع الأمامية من الحركة الثقافية".في حين أن معظم الروايات المغربية اعتبرت "نتاجا لأديوليوجية الطبقة المتوسطة في بلادنا منذ أواخر الستينات، حيث أنها كتبت من طرف مجموعة تنتمي في معظمها إلى الطبقة الوسطى.
وقد أدى هذا الربط بين نشأة الواقع الروائي وطبقة اجتماعية معينة، هي الطبقة البورجوازية والوسطى منها على الأخص، بالنقاد إلى اعتبار هموم المثقف البورجوازي الصغير محور أغلب الأعمال الروائية، وتداولت أغلب النصوص النقدية التطبيقية هذا الحكم؛ حيث رأى النقاد بأن المرتكز الفكري لمعظم الكتابات الروائية هو الطبقية التي كونها المثقف البورجوازي الصغير عن ظروف واقعه المادي وممارسته الاجتماعية، في خضم عملية بحثه عن معنى وجوده وقضايا تطلعاته وأوضاعه وحياته1.
ثم إن النص الروائي في المغرب عرف خمسة أنواع: 1- الرواية الذاتية (السيرة الذاتية) مثل "الزاوية" للتهامي الوزاني، أو " في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون. 2- الرواية العاطفية، مثل "أمطار الرحمة" لعبد الرحمن المريني. 3- الرواية التاريخية " وزير غرناطة" لعبد الهادي بوطالب، و"المعركة الكبرى " لأحمد محمد شماعو... إلخ. 4- الرواية الفلسفية: "جيل الظمأ" و "إكسير الحياة" لمحمد عزيز الحبابي. 5- الرواية الاجتماعية والواقعية: وهذا النوع الأخير يضم أغلب الروايات المغربية.
إن الاستغراب الذي نشأ في المجتمع المغربي قبل مجيء الاستعمار ببضعة عقود، وترعرع زمن الحماية الفرنسية لم يصب مجال الأدب إلا بعد الاستقلال. وهكذا لم يكد ينصرم العقد الأول من الاستقلال، حتى دبت نزعة الاستغراب في الأدب المغربي الحديث، سواء في القصة أو الرواية أو الشعر أو الكتابة المسرحية، مما أدى إلى غربة الأديب وتعميق الهوة بينه وبين قارئه.
2- حول النقد الروائي
أكدت الدراسات والبحوث أن المغرب المستقل ورث عن الاستعمار مشاكل وأوضاعا اجتماعية واقتصادية عميقة كانت لها مضاعفات خطيرة على المجتمع عموما وعلى الطبقتين الفقيرة والوسطى بصفة خاصة.
ففي البداية عانى الفلاح المغربي الأهوال والشدائد، عندما جرده المستعمر الأجنبي من أرضه وحوله إلى أجير صغير، وبقي بعد الاستقلال يشكو حاله من جراء التهميش الذي عرفته القرى المغربية. أما المدينة فقد أصبحت مسرحا لاكتظاظ المهاجرين البدو الذين قصدوها بحثا عن العمل، ولم يكن إحساسهم بالاستغلال من قبل أرباب المعامل الناشئة بأقل من إحساسهم بنفس الاستغلال من قبل المعمرين بالأمس. ولعل الاضطرابات التي اتسمت بها الاختيارات السياسية والاقتصادية طيلة الستينات، خير دليل على تردي الوضعية الاجتماعية. كما عبرت حركات الاحتجاج العام التي اندلعت في عدة مدن مغربية خلال شهر مارس سنة 1965، وكذا الاضطرابات العمالية المتتالية، وإضرابات الجامعات والمعاهد الثانوية، عن الاستياء العميق إزاء الأوضاع المتردية.
"كان ظهور الحركات اليسارية ذات التوجه الماركسي في السبعينات منبثقا عن هذا الواقع، إذ أن الأجيال الشابة التي تنتمي إلى الفئات الوسطى والصغيرة، والتي درست بمختلف الجامعات، قد خضعت لمؤثرات فكرية متعددة لعل من أهمها النظرية الماركسية، حيث وجدت فيها معينا على فهم الواقع والمطالبة بتغييره، وعلى رفض الواقع العربي بعد هزيمة يونيو 1967 وانتقاد الأنظمة العربية، حيث أن الحركات اليسارية ذات التوجه الماركسي اعتبرت هذه الهزيمة دليلا قاطعا على فشل الأنظمة البورجوازية في التسيير والمواجهة، ورغم الأبعاد المفروض الذي خضعت له هذه الحركات في المغرب منذ السنوات الأولى من السبعينات، فإن الفكر الماركسي ظل يشكل خلفية رئيسية في المجال الأدبي إبداعا ونقدا بصفة خاصة. وذلك ما يساهم في توضيح بعض ملامح الحركة النقدية كسيادة الاتجاه الواقعي في مجال نقد الرواية والطابع السياسي الواضح الذي اكتسته بعض المواقف النقدية من بعض الروائيين، لقد صاحبت هذه المواقف المد اليساري الماركسي التوجه في بداية السبعينات، وأبرزت إحدى السمات التي طبعت المجال الثقافي بصفة عامة، وتمثلت في ارتباط الثقافي و السياسي2 "نشأ النقد الروائي في المغرب في إطار هذه الخلفية بكل شروطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولاشك أن مساره و مرتكزاته النظرية ومفاهيمه نابعة منها. ولذلك فإن سيادة المفهوم السوسيولوجي للرواية منذ أواخر الستينات وحتى بداية الثمانينات، كما سيتضح لاحقا والإلحاح على الواقعية وعلى المضمون الروائي الملتزم، ونبذ القضايا المتعلقة بالشكل الروائي، كل ذلك من شأنه أن يؤكد الارتباط الذي لا يمكن التغاضي عنه بين الواقع بكل مستوياته من جهة، وبين نقد الرواية من جهة ثانية"3.
وهكذا منذ مطلع السبعينات، اهتم النقد الأدبي الروائي بالرؤية الواقعية فقد كتب محمد برادة وإدريس الناقوري وغيرهما مقالات وكتبا في هذا الشأن، وتم توضيح مفهوم الواقعية كمنهج يقوم أساسا على رؤية معينة للأدب وعلاقته بالواقع.
"وليست الواقعية سوى واحدة من المقولات العلمية الشاملة والموضوعية التي تلخص موقفا وفكرة صائبة يؤكدان أن الأدب والاديولوجية عموما، هما في كل زمان ومكان نتائج واقع بشري وثمرة تجربة اجتماعية معيشة4.
فالأدب إذن جزء من الواقع وأحد لوازمه، وكل تحليل يفيد في معرفة الواقع لابد أن يساعد كذلك على فهم الأدب، على اعتبار أن الأدب جزء من حركة الإنسان في العالم، ووسيلة من وسائل تعبيره عن علاقته بالعالم وعن تصوره له".
ومن الناحية المنهجية، تبنى بعض النقاد المغاربة منهجا اجتماعيا جدليا "بصورته الكلاسيكية التي كانت سائدة في أوربا مع بداية هذا القرن"5. وعلى رأس هؤلاء النقاد، إدريس الناقوري، وذلك بالرغم من اعترافه في مقدمة كتابه "المصطلح المشترك" باستفادته من نظرية لوكاتش، وغولدمان في الرواية.
ونجد أن منهج هذا الأخير البنيوي التكويني أكثر حضورا في الدراسات النقدية الأولى، التي تناولت فن القصة والرواية، وقد استعان بهذا المنهج عبد الكبير الخطيبي في كتابه "الرواية المغربية" بجانب المنهج الموضوعي كما عرف "رولاند بارت" في بداية مسيرته النقدية.
وقد اختار المنهج الكولدماني أيضا سعيد علوش لتحليل نماذج من الرواية المغربية في كتابه "الرواية، الايديولوجيا في المغرب العربي". كما توسل به نجيب العوفي في كتابه "درجة الوعي في الكتابة" الذي يدرس فيه بعض الأنواع الأدبية بجانب الرواية والقصة.
وطبق هذا المنهج لحمداني حميد في أطروحته الجامعية "الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي". وقد "كانت البنيوية التكوينية بدقة مفاهيمها ووضوح أساسها النظري، مدخلا وأصلا من أصول الاهتمام بالباختينية6التي استغل بعض الباحثين المغاربة في مطلع الثمانينات نظريتها الشعرية في دراستهم وأبحاثهم الروائية، وأخص بالذكر الأستاذين محمد برادة وأحمد اليابوري.
وساهم إبراهيم الخطيب في التعريف بنظرية المنهج الشكلاني من خلال ترجماته لبعض نصوص الشكلانيين الروس، التي حاول تطبيق بعض مفاهيمها على بعض الروايات المغربية في السبعينيات. غير أن هذا النمط من الأبحاث لم يحظ باهتمام النقاد المغاربة نظرا لكون اهتمامها ينصب على الجانب الشكلي الفني للعمل الأدبي، وعلى النسق اللغوي الداخلي للنص الأدبي مع إهمال المرجعية الاجتماعية والتاريخية لهذا النص.
وهكذا "شكلت النظريات الغربية في مجال النقد الروائي، المصدر الأساسي إن لم نقل الحتمي الذي استقى منه النقاد العرب مفهوم الرواية. نظرا لحداثة هذا النوع من الأدب العربي وغياب تراث نقدي في مجال الرواية قد يمتح منه الناقد كما هو الشأن بالنسبة للشعر مثلا. لقد كان النقد العربي، هو الوسيط الذي حمل إلى النقاد المغاربة بعض مفاهيم النقد الغربي وعمل على تعميمها في الساحة الغربية، لأنه عربها وطبقها على أعمال عربية محلية. غير أن النقد الروائي بالمغرب يبرز بشكل واضح خلال المنتصف الثاني من السبعينيات أن النقاد المغاربة يتوفرون إلى جانب اطلاعهم على الكتابات النقدية الواردة من المشرق العربي على معرفة متفاوتة بالمصادر النقدية الغربية سواء في آثارها الأصلية أو التي ترجمت إلى العربية.
يفرض البحث عن المصادر النقدية المغربية التي اعتمدها النقاد المغربة في مفهوم الرواية، ملاحظة الارتباط النوعي بالثقافة الفرنسية لدى المثقف المغربي كناتج عن ظروف تاريخية محددة، مما يدفع إلى القول بأن اللغة الوسيطة بين الناقد المغربي والناقد الغربي، هي الفرنسية في أغلب الحالات، وأن تأثير النقد الأدبي في فرنسا ساهم ويساهم كعامل خارجي رئيسي في توجيه النقد المغربي وضبط مفاهيمه"7.
وإذا كانت المناهج النقدية المستوردة قد أفادت النقاد المغاربة الروائيين في فهم وتحليل وترشيد النص الروائي فإن استعمالها لم يخل من عثرات، كما كانت له سلبيات كثيرة. وسأقتصر هنا على مثال من تقديم الدكتور محمد الكتاني لكتاب "الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي"8(دراسة بنيوية تكوينية).
" وهكذا يرتبط الفهم الروائي عضويا بالوسط الاجتماعي، لأنه يعيش في قلبه ويتصل بكل شرائحه، ويصدر عن وعيه، ولكنه في نفس الوقت يخضع من حيث الشكل لقواعد (البنية) المتميزة فيه. ومن تطابق البنية الفنية والمكونات الموضوعية ينشأ مشروع المنهج المفسر لهذا الإبداع. وهو المنهج الذي يقترحه المؤلف في هذا البحث، غير أنه يتحمس له بالقدر الذي تتلاشى أمام عينيه كل سلبياته,، فتمضي به غلواء الحماس إلى حد أنه يعتبر الروائي المبدع مجرد واضع للصياغة الفنية المناسبة للوعي الجماعي الذي يعتمل في ضمير الجماعة التي ينتمي إليها، أو الطبقة التي يعبر عنها، فالنص الروائي مرتهن حتما بالبنية الفكرية للجماعة، وإن بدا أنه من صنع كاتبه، لأن كاتبه لا يستقل بوعيه ولا بفنه، ولا بشيء ذاتي – مهما يكن حظه من الوجود- عن تلك البنية الجماعية. وتلج به الغلواء في مضايق هذا المنهج، فيصبح ناقدا دوغمائيا يتعاطف مع كل عمل روائي يرفض التصالح مع الواقع، ويدين كل عمل روائي متفائل، لأن التفاؤل ليس سوى عاطفة لا مبرر لها من منظور جدلية الصراع الطبقي.
وقد كان موقفنا من هذا النظرية سواء في حد ذاتها أو من خلال تطبيقها في هذا البحث، أنها تؤول العمل الفني بدل أن تحلله، فهي تجافي روح المعرفة الموضوعية وأنها حين تطبيقها تتجاهل أمرين: أولهما: الحدود القائمة فعلا بين الذاتي والموضوعي، بين المبدع وبين مجتمعه، بين وعيه الذاتي ووعيه الموضوعي باعتبارهما متداخلين لا منفصلين، بحيث يجب أن نعتبر أن تخلي الروائي عن وعيه الذاتي في سبيل تبني وعي جماعي، مرحلة من التطور يصل إليها عبر التحامه بطبقة اجتماعية ما، وليس قدرا مقدورا له في جميع الأحوال.
فالمبدع ينتقل من وعي مغاير عبر تجربته الذاتية، والتحامه بقضايا مجتمعه أو طبقته، وقد يظل متوقعا في ذاته، وقد يمزج بين الموقفين. وهكذا يبدو أن ذاتية الروائي تتجاوز نفسها لتنماث في المجتمع، وهو شبيه بمركب كيميائي تتغير فيه العناصر الذاتية فتصبح شيئا آخر، ليست هي الذات وليست هي الموضوع، في حين يمضي المنهج المطبق إلى تأكيد صيرورة الذاتي موضوعيا، بشكل حتمي أو آلي، وحينئذ لا نعرف أين نضع إبداعات روائية كثيرة تشذ عن هذه القاعدة.
لقد أصاب الناقد الدكتور محمد الكتاني في قوله:" غير أنه يتحمس له – أي لمنهجه- بالقدر الذي تتلاشى أمام عينيه كل سلبياته... إلى حد أنه يعتبر الروائي المبدع مجرد واضع للصياغة الفنية المناصبة للوعي الجماعي... فالنص الروائي مرتهن حتما بالبنية الفكرية للجماعة... لأن كاتبه لا يستقل بوعيه، ولا فنه، ولا بشيء ذاتي عن تلك البنية الجماعية..." وهذا نقد موجه لحميد لحمداني وللمنهج في نفس الوقت. ولطالما وقع النقاد البنيويون في مثل هذا الخطأ الناتج عن المبالغة في الاستعمال الآلي لعناصر ومفاهيم البنيوية التكوينية. ولعل الطبيعة الذاتية للمنهج البنيوي تكون المصدر الأساسي لهذا "الانزلاق" المنهجي الذي يحصل للنقاد أثناء استعمالهم للمنهج المذكور. "وهكذا نرى أن استعمال كلمة بنية بحسن نية لا يخلو من مخاطرة، خصوصا حين نكون إزاء علم لا يملك بعد الأدوات النظرية التي تؤهله لإدراك ذلك الموضوع على المنشود. ويكون عندئذ استخدام كلمة بنية مجرد تعالم وادعاء. وأخطر ما يكون الأمر أن تستخدم هذه الكلمة حين يكون المرء بصدد وقائع مركبة ومعقدة، ولا يملك استيعابها والإحاطة بها، فيعمد إلى احتوائها في طلاسم لفظية غامضة مختلطة بالضرورة، لكي يخلص من كل ذلك إلى استنتاج مبدأ أولي قابل للطعن حتما، ألا وهو الزعم بأن لتلك الوقائع طابعا ونسقا تنظيميا، ولاشك أن المرء حين يقول عن أي واقعة أنها تمثل نظاما أو نسقا، فإنه يرفع عنها كل عرضية تاريخية، كما أنه يقضي في الوقت نفسه على كل مبادلة حرة8.
ومن ناحية أخرى فإن ربط الإبداع الروائي وتقييده بالبنية الفكرية للجماعة وإعطاء الأولوية للعالم الاجتماعي على حساب ذاتية الروائي، كل ذلك يعبر عن مدى هيمنة المذاهب والتيارات الاجتماعية والفلسفية في الغرب على أقلام النقاد المغاربة، وهذه المذاهب تعلي من شأن المجتمع والعوامل الخارجية الاجتماعية والاقتصادية وتحط من قيمة الفرد ومبادراته الذاتية. ومن هنا فإن تحكم النسق أو البنية9في الإبداع الأدبي والفكري من باب تحكم العامل الاقتصادي- على الطريقة الماركسية- في الإنتاج الاجتماعي والثقافي، وتحكم العامل الاجتماعي- على الطريقة الدوركايمية – في النشاط الحضاري برمته وهكذا... بل إن إميل دوركايم جعل للمجتمع عقلا خاصا ومستقلا أطلق عليه "اسم العقل الجمعي"10، هذا العقل يجعل من خواص الوقائع والعوامل الاجتماعية أنها إجبارية وإلزامية لكونها تصدر عن قوة تعلو على الأفراد وهي قوة العقل الجمعي. ويرى دوركايم في كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع11أن الفرد لا قيمة له، ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية وإنما القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية، وكلها عبث لا قيمة له،وهو في هذا يحاول إرساء قاعدة تتعارض مع الإرادة البشرية وترمي إلى القول بأن التحلل والانحلال أمر حتمي. إن دوركايم يعد واحدا من كبار الدعاة إلى إنكار شخصية الفرد...
والخلاصة أن النقد الروائي في المغرب دار ويدورفي فلك الاستغراب، وأن النقاد المغاربة ما فتئوا يقلدون أساتذتهم الغربيين ويطبقون مناهجهم، حتى ولو أدى ذلك إلى "إلحاق الضرر" بالإنتاج الأدبي. يقول الدكتور حسن حنفي:" ننزع أنفسنا من بيئتنا الثقافية إما إحساسا بالعار أمامها، أو خجلا منها، أو جهلا بها، أو تقليدا للغير، أو انبهارا به، أو رغبة في اللحاق بركابه.
- نزرع أنفسنا في بيئة ثقافية أخرى، ندخل في معاركها ونحن لسنا أطرافا فيها، وبالتالي نحول أنفسنا إلى وكلاء حضاريين للغرب.هذا مثالي وهذا واقعي، هذا عقلي وذاك حسي، هذا وجودي وذاك وضعي، هذا تحليلي وذاك بنيوي، هذا ماركسي وذلك برجماتي... الخ. - نعطي الثقافة الغربية نوعا من الإطلاق والتعميم ليس لها، وننشرها خارج حدودها، وبالتالي نحقق مآرب ثقافة المركز باعتبارها ثقافة مهيمنة وموجه للأطراف12.
الهوامش:
1- فاطمة الزهراء أزوريل "مفاهيم نقد الرواية بالمغرب"(مصادرها العربية والأجنبية( طبعة النجاح الجديدة 1989 ص9 2- فاطمة الزهراء أزوريل المرجع السابق ص 17-18 3- فاطمة الزهراء أزوريل المرجع السابق ص 23 4– إدريس الناقوري"المصطلح المشترك" والنشر المغربية، البيضاء، الطبعة الثالثة 1985 ص 8 5– الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي/ حميد حمداني- دار الثقافة – البيضاء. 6عبد الحميد عقار "ملاحظات بصدد قراءة الرواية المغربية" 7- فاطمة الزهراء أزوريل المرجع السابق ص60-61 8– هذا الكتاب في الأصل رسالة جامعية هيأها الناقد الروائي حميد لحمداني تحت إشراف د محمد الكتاني وطبعت سنة1985 بدار الثقافة (الدار البيضاء). 9- عمر محمد الطالب "مذاهب الدراسات الأدبية الحديثة" دار اليسر للنشر مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 1988 ص 266 -10 انظر حسن شحاته سعفان "تاريخ الفكر الاجتماعي والمدارس الاجتماعية" دار النهضة العربية مصر ط الرابعة 1966 ص 240 و ما بعدها وانظر أيضا1976 p 388 et suiteEd.Gallinand France (les étapes de la pensée sociologique) Raynons Aron) 11- انظر الفصل الول والثاني من كتاب " Les régles de la méthode sociologique/France 1973/Ed" 12- حسن حنفي "مقدمة في علم الاستغراب....." ص 77
0 تعليقات