إن القرآن خطاب رباني موجه إليك، فافتح قلبك له، واخشع في تلاوته لعل الله يلهمك بعض أسراره. وإذا لم يحدث في باطنك خشوعا أو طمأنينة، فما وقع الخطاب على قلبك، وما وعت أذنك؛ (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ). فاحرص على أن تجعل رؤيتك بعين البصيرة للمشاهد الغيبية من جنة وملكوت، كرؤيتك بعين اليقين للمشاهد الدنيوية، لعل ذلك ينفعك في التقرب إلى الله.
ثم إن إدراك الطبيعة العلوية للخطاب القرآني واستشعار الحق الكامن فيه يتطلب تجريد النفس من أهوائها والإنصات إلى معانيه بقلوب واعية صادقة. والأسباب المساعدة على ذلك كثيرة، أهمها: حضور القلب أثناء التلاوة، وهو أس هذا البناء وشرطه اللازم، إذ كيف يتصور جني ثمار التلاوة والقلب ساه أو غافل. قال تعالى: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" (سورة ق، آية 37).
ولكي يتم للعبد حضور القلب أثناء التلاوة، ينبغي له أن يجمع همته ويركزها في القصد المطلوب. وهذا أمر منطقي ومجرب؛ فإن الذي عقد العزم على إتيان أمر ما، أو القيام بمهمة معينة، واستفرغ لذلك وسعه وبذل فيه جهده، لا بد أن يحصل له من التركيز فيما هو مشغول به، والانصراف عن كل ما يشوش عليه عمله.
وعلى قدر محبته وتعظيمه لذلك الأمر ماديا كان أو معنويا، يتحرر باطنه من الوساوس والأفكار المثبطة، وصنوف من أحاديث النفس الجالبة للكسل والوهن، والمسببة في الإعراض عن القيام بجلائل الأعمال. وإذا كان التركيز وجمع الهمة في أمر دنيوي ابتغاء تحقيقه ونيله، يفضي في غالب الأحيان إلى الغرض المقصود، فمن باب أولى أن يؤدي هذا الشرط إلى الغرض المرجو إذا تعلق الأمر بقراءة القرآن.
وللعلامة الفقيه محمد بن قيم الجوزية كلام نفيس في هذا الباب قال رحمه الله تعالى:
"إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, وألق سمعك، وأحضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه إليه، فإنّه خطاب منه لك، على لسان رسوله، قال تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ"(ق 37). وذلك أن تمام التأثير لمّا كان موقوفا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمّنت الآية بيان ذلك كلّه بأوجز لفظ وأبينه، وأدلّه على المراد.
فقوله تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى" (قّ:37) إشارة إلى ما تقدّم من أوّل السورة إلى ها هنا وهذا هو المؤثّر.
وقوله: "لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ" فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحيّ الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: "إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا" أي حيّ القلب ، وقوله: "أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ" أي وجّه سمعه وأصغى حاسّة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثّر بالكلام.وقوله:" وَهُوَ شَهِيدٌ"؛ أي شاهد القلب حاضر غير غائب.
قال ابن قتيبة: "استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه". وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب، وغيبته عن تعقّل ما يقال له، والنظر فيه وتأمّل.
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتقى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكّر".1
1- ابن قيم الجوزية؛ "الفوائد"، المكتبة العصرية بيروت، 1422-2002، ص 9-10.
د. عبد الله الشارف، جامعة القرويين/ كلية أصول الدين، تطوان المغرب، رمضان 1433-غشت 2012.
5 تعليقات
السلام عليكم استاذنا بارك الله فيك وجزاك عنا خيرا.وارجو من الله العلي القدير ان يجعلنا و اياكم من الدين تخشع قلوبهم لذكر الله و تفيض أعينهم من الدمع
ردحذفالسلام عليكم
ردحذفجزاك الله خير شيخنا ...نعم القران كنوزه عظيمة ووافرة وبقدر ما نستحضر اياته ونتدبرها نكتشف بعضا من كنوزه ...مما ينعكس ايجابا على سلوكنا واخلاقنا ومعاملاتنا وتاثير القران على القاريء يكون حسب تدبره لاياته
بارك فيكم وجزاكم الله كل خير.جعلنا الله وإياكم ممن يتدبر القرآن ويخشع له.
ردحذفجزاك الله خيرا أستاذنا الفاضل ، ووفقك لما فيه الصلاح و الفلاح ،و زادك من علمه إنه هو العليم الحكيم
ردحذفبارك الله فيك شيخنا
ردحذف